الجمعة، 9 مايو 2008

قراءة في رواية خزانة شمائل

كيف يكتب الروائي التاريخ؟
وهل التاريخ يعيد نفسه؟
البطل الشعبي يظهر في أشد اللحظات ضعفًا

لا يتمكن الكاتب دائمًا من قول ما يريده مباشرة، ومن ثم يلجأ إما إلى الرمز، أو إلى زمان آخر أو مكان آخر. والرواية التي تنتقل بنا إلى زمان ماضٍ ـ سواء أرادت الربط بين الماضي والحاضر أو لم ترد ـ تعرف بالرواية التاريخية. وقد اتخذت أشكالاً متعددة، منها: ما يحاول تسجيل حقبة تاريخية ما في أمانة ودقة، ولم يجاوز هذا الإطار المحدود. ومنها: ما يبعث التاريخ الماضي؛ لكي يجري عملية إسقاط على الحاضر، بهدف نقد الحاضر وتغييره. ومنها: ما ينطلق من الواقع التاريخي ويحوله إلى خيال صرف. وأيًّا كان نوع الرواية التاريخية، فهي مقيدة بالأحداث والشخصيات؛ لذا يفتقر الكاتب فيها إلى الحرية المطلقة.
والمتأمل في قراءة رواية خزانة شمائل، للروائي صلاح معاطي، يستطيع أن يلمح كم كان الكاتب مهمومًا ومؤرقًا بسبب ما يجري في المنطقة العربية من صراعات وقلاقل، خاصةً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق؛ الأمر الذي نستطيع من خلاله تفسير لماذا لجأ الكاتب إلى فترة حكم السلطان الناصر زين الدين أبي السعادات فرج بن برقوق، ربما لأن تلك الفترة بما كان يحويها من تفكك في أوصال الجسد العربي وصراعات بين حكام الأقطار العربية بعضهم البعض، وانشغالهم بذلك عن خطر داهمٍ كان يهددهم جميعًا، ممثلاً في هجوم المغول عليهم بزعامة تيمور لنك، تلك الفترة تشبه إلى حد كبير ـ وربما لا نكون مبالغين إذا قلنا أن الشبه يصل إلى درجة التطابق ـ ما نعيشه الآن في العالم العربي، فالكيان الصهيوني يمثل شوكة مؤلمة في الجسد العربي، والهيمنة الأمريكية تسيطر على مقدرات وثروات العالم العربي في ظل وجود فساد داخلي استشرى بدرجة كبيرة داخل هذه الأنظمة.
الأمر الذي جعل الكاتب يلجأ إلى التاريخ ليعيد من خلاله فهم الواقع، وربما لمحاولة صياغة الحاضر صياغة جديدة من خلال الاتكاء على مجد الماضي، فالرواية تبدأ أحداثها بسجن جلال الدين الجمدار في خزانة شمائل؛ وهي معتقل رهيب يجري بداخله تعذيب وحشي لكل من يدخله، يصفها الكاتب قائلاً: " ..جدران صفراء باهتة غير مستوية، سقط جيرها ونشعت عليها الرطوبة، ونحتت في أكثر من موقع، فكثرت فيها الحفر والنقر كأنها مصابة بالجدري.. أسقف عالية سوداء.. عشش في أركانها العنكبوت، إضافة إلى خفاش علق رجليه في أحد العروق الخشبية وترك جسده وجناحيه يتدليان في فراغ الخزانة وقد أغمض عينيه، فبدا كشيطان يترصد بأصحاب الخزانة سوءًا .."
ومرة أخرى عندما نقرأ وصف الكاتب لهذا السجن يستوقفنا اسمه خزانة شمائل، لكن سرعان ما يزول اللبس ونفهم معنى الاسم على لسان أحد المسجونين، عندما يتساءل قائلاً:" لا أدري لماذا أسموها خزانة ولم يسموها جهنم أو سقر أو الويل أو الجحيم." فيجيبه سجين آخر في سخرية:" بالطبع خزانة لأنهم يحتفظون داخلها بالأشياء النفيسة القيمة. وهل هناك أنفس منَّا وأقيم؟" ثم يتم المعنى جلال الدين الجمدار؛ وهو الشخصية المحورية في الرواية، فيقول": لعنة الله على صانعها علم الدين شمائل كان وزيرًا للملك الكامل محمد الأيوبي.."
بعد قراءة وصف الكاتب للخزانة والوقوف على معناها، يجد القارئ صورة سجن "أبي غريب" في العراق وما حدث ولا يزال يحدث فيه من تعذيب، تتجسد أمام عينه، وبتتبع القراءة الواعية نستطيع أن نحدد أن الكاتب اختار الشكل الثاني من أشكال كتابة الرواية التاريخية، وهو بعث التاريخ الماضي لعمل إسقاط على الحاضر.
ولنوغل برفق في أحداث الرواية حتى يتأكد لنا هذا الظن؛ حيث تبدأ الأحداث عندما يدخل جلال الدين الجمدار - الذي يعمل إسكافيًّا لدى السلطان - المعتقل لسبب تافه، وهو ضياع مركوب السلطان، لكنه يجد في انتظاره قائمة طويلة من الاتهامات الأخرى الملفقة؛ فهو سارق مجوهرات الأميرة سارة، وهو متآمر لقتل السلطان، وتمضي به سنوات العذاب داخل أسوار السجن، وفيه يتعرف على علاء الدين السيرافي وعلى شيخ المحمودي، وفي الخارج يتوفى والد زوجته، ويبدأ المماليك الجلب في مضايقاتها والتحرش بها، فتقرر الرحيل إلى الشام حيث تعيش شقيقتها مع زوجها وابنها، وفي رحلة الذهاب هذه يسرق أحد النخاسين منها ولدها حسن ويعود به إلى المحروسة، لكن يفشل في بيعه حتى يأتي أصفر عينه الإستدار الرجل الذي أدخل أبا الطفل جلال الدين الجمدار الخزانة؛ ليشتري الغلام ويربيه. وسرعان ما تجري الأحداث فيفر الجمدار من السجن ومعه شيخ المحمودي وحينها يقتل صديقهم الثالث علاء الدين السيرافي، فيقرر شيخ المحمودي الذهاب إلى الشام؛ حيث يلقى أعوانه ورجاله، أما الجمدار فيذهب إلى المحروسة باحثًا عن زوجته وولده، لكن المماليك يترصدونه في كل مكان يذهب إليه. وفي كل مرة يستطيع الهرب منهم، فيصير في أعين الناس بطلاً شعبيًّا، لكنه يعلم برحيل زوجته إلى الشام، فيقرر الذهاب إلى الشام باحثًا عنها وهربًا من مطاردة المماليك له، ويتحقق له ذلك بمساعدة صالح الشهابي ورجل بدوي يعمل في التجارة.
وهناك في الشام يعمل إسكافيًّا، وتتشابك الأحداث حتى يعرف بقصة ضياع ولده وعودة زوجته إلى المحروسة بعد مقتل زوج شقيقتها وولدها على أيدي جنود تيمور لنك، وفي تلك الآونة يكون الأمر قد تأزم في المحروسة؛ بسبب الفساد وظلم المماليك الجلب لأهل البلد الأصلاء المصريين، وبسبب الجو المشحون بالمؤامرات والدسائس بين السلطان وأمرائه من المماليك من ناحية، وبينهم وبين بعضهم البعض من ناحية أخرى، وبسبب حياة اللهو والعبث مع النساء، التي كان يعيشها السلطان، الأمر الذي أدى في النهاية إلى قتله. وفي إحدى المعارك يقابل الجمدار ولده ويتعرف عليه، ثم يقرران العودة إلى المحروسة بعد أن تهدأ الأمور ويذهبان إلى خزانة شمائل؛ رمز الظلم والقهر والطغيان ليحطماها تحقيقًا لرؤية شيخ المحمودي وكان قد قرر أنه إذا منَّ الله عليه بالخروج من الخزانة، ومكَّن له في هذا البلد؛ ليحولن الخزانة إلى مسجد كبير، ثم يلتقي الجمدار بزوجته أثناء تحطيم الخزانة، ويلتئم شمل الأسرة من جديد ويبدأ عهد جديد لا توجد فيه خزانة شمائل.
وعند التحليل الفني للنسيج الروائي عند الأستاذ صلاح معاطي، نجد أن الإسقاط على الحاضر واضح وجلي في أكثر من موضع، ربما لا يتسع المقام لذكرها؛ لذا سنشير إلى شيء آخر وهو ظهور الروح الإنسانية بشكل عام داخل الرواية، فالكاتب جعلنا نتعاطف مع الإنسان عمومًا في ضعفه وسذاجته، وصراعه لمقاومة هذا الضعف، وفي قهره وإرادته الدافعة لهذا القهر، وفي قيده وحريته التي تستميت في تحطيم هذا القيد، وفي انسحاقه وتجمعه لسحق هذا الانسحاق. والروح المصرية حيث أبرزها الكاتب بكافة سماتها وتناقضاتها من سخرية وحب وشجاعة وجبن وصبر واحتمال غير عادي للمكاره؛ حتى يبدو الشعب المصري في عصور الضعف والانحطاط وتفشي الظلم والجهل وكأنه قد مات، أو ألف الظلم وركن إليه، لكن الحقيقة دومًا تكون عكس ذلك، ففي أشد لحظات الضعف يظهر البطل الشعبي من بين المصريين البسطاء، يظهر كأن القدر ادخره للحظة المناسبة، والعجيب أن هذا البطل ربما يكون فردًا عاديًّا جدًّا لا يختلف كثيرًا عن باقي المصريين، وهذا سر عظمة هذا الشعب أن أبسط الناس فيه عند اللحظة الحاسمة يتحولون إلى أبطال ينفضون عن كواهلهم أردية الذل والخنوع والاستسلام، ويرتدون بدلاً منها ثياب العز والمجد والفخار.
عبود مصطفى عبود

ليست هناك تعليقات: