السبت، 10 مايو 2008

هؤلاء بيـننـا

كثيرا ما يجلس الانسان بمفرده حيث يشعر من شدة الوحدة بأنه هو الوحيد الذى يعيش على ظهر البسيطة يتخيل العالم و كانه صحراء جرداء لا تحتوى على أى طرى من كلأ الحياة الرطب ، و أنه نبتة صبار قبيحة المنظر قابعة فى وسط الصحراء تحرقها أشعة الشمس فى الظهيرة و تقتلها البرودة فى الليل ، لا أحد يأبه لها لا أحد يشعر بها لا أحد يشعر بوحدتها و ألمها ، و ان مر عليها عابر فاءنه واحد من اثنان ، اما شخص يقضى حاجته عليها و هو معتقد انه يبعث فيها الحياة وهو لا يدرك مدى ألمها و امتعاضها من الأمر ، أو أخر يداعبها متجنبا بذلك أشواكها حتى تأتى اللحظة المناسبة فيكسر أحد أطرافها ليأخذ منه ما يريد من زيت او أيا كان ما يريده ، تلك هى مأساة الشخص الوحيد لا يشعر بها ولا بمدى معاناته فى الحياة وقسوتها عليه غيره .
ان هؤلاء هم من يمر عليهم قطار الحياة فيدهسهم تحت عجلاته بلا رحمة دون أن يأبه اليهم أو حتى ينظر اليهم على استحياء ليرى ما فعله بهم ، و بغض النظر عن هذا كله فان هؤلاء على قيد الحياة يناضلون من أجل البقاء ، فلهؤلاء عقولا تفكر و قلوبا تحب و مشاعر تحس ربما أكثر من الآخرين ، ان مشكلة الشخص الوحيد تتركز فى انه يدخل المباراة فى الوقت الضائع بعد أن يكون قد فاته كثير الكثير ، انه يدخل الحياة متأخرا بعد فوات الأوان فلا يشعر بمتعة الشعور بأنه على قيد الحياة ، فللأسف هو ينظر اليها من الخارج و يبهره جمالها ، و من خوفه الشديد من الاقتراب يكتفى بمقعد المشاهد المتأمل بمفرده ما يفوته منها .
أحيانا تأخذه الشجاعة للاقتراب و حينها يشعر انه قد تفاهم مع الدنيا و يراها متبسمة فاتحة ذراعيها على مصاريعها فيقترب بلهفة العاشق لحضن محبوبته التى طالما انتظرها حتى اعتقد انه لا أمل فيها و اذا به يصدم بأنه لا مكان له فيها فقد فات الأوان .
ان الحب فى حياة هؤلاء هو نقطة الالتقاء بين الحياة و الموت ، هو الخط الفاصل بين دفء المهد و برودة اللحد فبوجوده فى حياة الواحد منهم يشعره بأنه على قيد الحياة حيث تكسر وحدته و يحاول مرة أخرى الدخول الى معترك الحياة ، ولا يمر الكثير من الوقت حتى يعود سريعا مرة اخرى الى ما كان عليه و أسواء فيعود الى عزلته و وحدته فى قبر نفسه ، و يعود مرة أخرى الى خيالاته و أحلامه باليوتوبيا التى لا وجود لها على أرض الواقع .
فى نظرة متأملة الى هؤلاء الذين ظلمتهم الحياة - وقد تعترض الحياة على كلامى فمن رأيها أن هؤلاء هم من ظلموا أنفسهم فتلك هى طباعهم و سماتهم الشخصية – ولها عذرا فى أن تقول ذلك فانهم كذلك ، ولكن هناك سؤال يطرح نفسه هل ولدوا كذلك ؟ لا أعتقد .
ان فطرة الانسان التى فطره الله عليها هى الاجتماعية و التكاتف فى بناء المجتمع ، فلولا حواء فى حياة آدم لما وجدت الحياة ولولا وجود الناس فى حياة بعضهم لما وصل العالم الى هذه التكنولوجيا و المدنية و الحضارة فهذه هى سنة الحياة .. المشاركة ، ان الحياة تتمحور حول مفهومى الاجتماعية و المشاركة وتأثير الفرد فى المجتمع و تأثره به .
لقد خلق الله الانسان فى أحسن تقويم و لكنها النشأة و أسلوب التربية هما اللذان يؤثران اما بالسلب أو بالايجاب فى حياة الفرد حيث تخلق شخصية صحيحة و سوية أو شخصية ضعيفة بلا هوية شخصية مريضة و معقدة و للأسف ان تلك التربية تخرج أجيالا متلاحقة تتميز بانعدام الهوية و الشخصية والثقة و الانطوائية و السلبية فكثير من الآباء يتعاملون مع أبنائهم على أنهم جزء من أملاكهم الشخصية و بأنهم لهم حرية المنع والحجب و الاختيار فى كل شئ و التدخل فى أدق تفاصيل و خصوصيات حياة الابن ، و كأن مصائب الكون تنتظره بفارغ الصبر فيحجبونه عن الحياة و لا ينتج عن ذلك الا مستنسخ مشوه من كلاهما مستنسخ لا يعرف شيئا عن الحياة الا ما تفضلا عليه به من المثاليات التى لا وجود لها على أرض الواقع ، لا علاقة له بمن حوله الا بمن يشيرون عليه لا وجود لمن يختارهم هو من الأشخاص فى حياته لا شئ الا نسخا مكررة تبث نفس المثاليات التى لا تتمتع الحياة و الواقع بأى منها حتى يأتى السن الذى لا يستطيعون فيها ممارسة هوايتهم المفضلة فى التحكم فى دميتهم عن بعد ومشاهدة هذه القطعة من الأنتيكة وهى تخرج من عالمهم القديم البالى الى المجهول بكل ما تحمله كلمة "المجهول" من معانى الخوف والقلق .
عند هذه السن يضطرون آسفين أن يرفعوا الحصار عن قطعة الأنتيكة الثمينة التى عملوا جاهدين على اخراجها على الوضع الأكمل ، ويخرج هذا المسخ الى الحياة للمرة الأولى متوقعا أن تأخذه بالأحضان فلقد سلحه مربوه بكل ما يلزمه من الحكمة والفضيلة بما يكفى لتدمير حياته و قلبها رأسا على عقب ،و تتوالى الصدمات ففى كل يوم يمر عليه تزداد معرفته لنفسه فيكرهها .. كلما زادت معرفته لها زادت كراهيته لها ، فانه لأول مرة فى حياته ينظر الى المرآة انه يرى ذلك اللاشئ العديم الشخصية ذلك الشخص السلبى الغير قادرعلى اتخاذ أى قرار حتى فى أهم مواقف حياته فلقد اعتاد على ان يرى أشخاص تفصيل و لأول مرة يرى النصف الفارغ لكوب الحياة و يشعر بعدم القدرة على معايشة الواقع فلا يجد أمامه ملاذ الا قبر نفسه فيدفن نفسه فيه تاركا الحياة ورائه ولا يفكر الا فى شئ واحد... لماذا ؟ ، من السبب ؟ ، لمصلحة من ؟
وبعد تفكير ليس بطويل يشعر بأن من كان يظنهم يسلحوه حتى يخوض معترك الحياة هم من حرموه منها ، هم من جردوه من كل عتاده حتى اصبح ضعيفا مهزوما حتى لا يستطيع تحديد مصيره و مستقبله و من هنا يبدأ شعور أنهم هم من سلبوه عمره و حياته و تتبدل مشاعر الحب والتقدير و الاحترام الى الكراهية و الحقد و السخط ، و السبب فى كل ذلك التدخل فى كل تفصيلة من تفصيلات حياته و لم ينتج عن ذلك الا نبتة الصبار التى ذرعها الأهل فى صحراء الحياة تتخبطها رياح الغضب.
محمد يحيى

ليست هناك تعليقات: